فصل: تفسير الآية رقم (25)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


سورة الأحزاب

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏1‏)‏ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏2‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّنبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ‏}‏ وهذا وإن كان معلوماً من حاله ففي أمره به أربعة أوجه‏:‏

أحدهما‏:‏ أن معنى هذا الأمر الإكثار من اتقاء الله في جهاد أعدائه‏.‏

الثاني‏:‏ استدامة التقوى على ما سبق من حاله‏.‏

الثالث‏:‏ أنه خطاب توجه إليه والمراد به غيره من أمته‏.‏

الرابع‏:‏ أنه لنزول هذه الآية سبباً وهو ما روي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا المدينة ليجددوا خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد بينه وبينهم فنزلوا عند عبد الله بن أبي بن سلول والجد بن قيس ومعتب بن قشير وائتمروا بينهم وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضوا عليه أموراً كره جميعها فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون أن يقتلوهم فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّنبِيُّ اتقِ اللَّهَ‏}‏ يعني في نقض العهد الذي بينك وبينهم إلى المدة المشروطة لهم‏.‏

‏{‏وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ‏}‏ من أهل مكة‏.‏

‏{‏وَالْمُنَافِقِينَ‏}‏ من أهل المدينة فيما دعوا إليه‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ عليماً بسرائرهم حكيماً بتأخيرهم‏.‏

الثاني‏:‏ عليماً بالمصلحة حكيماً في التدبير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ‏(‏4‏)‏ ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَينِ‏}‏ فيه ستة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يوماً يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه إن له قلبين قلباً معكم وقلباً معهم فأنزل الله هذه تكذيباً لهم؛ قاله ابن عباس ويكون معناه ما جعل الله لرجل من جسدين‏.‏

الثاني‏:‏ أن رجلاً من مشركي قريش من بني فهر قال‏:‏ إن في جوفي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد وكذب فنزلت فيه، قاله مجاهد‏.‏ ويكون معناه‏:‏ ما جعل الله لرجل من عقلين‏.‏

الثالث‏:‏ أن جميل بن معمر ويكنى أبا معمر من بني جُمَح كان أحفظ الناس لما يسمع وكان ذا فهم ودهاء فقالت قريش ما يحفظ جميل ما يحفظ بقلب واحد إن له قلبين فلما كان يوم بدر وهزموا أفلت وفي يديه إحدى نعليه والأخرى في رجليه فلقيه أبو سفيان بشاطئ البحر فاستخبره فأخبره أن قريشا قتلوا وسمى من قتل من أشرافهم، قال له‏:‏ إنه قد ذهب عقلك فما بال نعليك إحداهما في يدك والأخرى في رجلك‏؟‏ قال‏:‏ ما كنت أظنها إلا في رجلي فظهر لهم حاله فنزلت فيه الآية، قاله السدي ويكون معناه‏:‏ ما جعل الله لرجل من فهمين‏.‏

الرابع‏:‏ أن رجلاً كان يقول إن لي نفسين نفساً تأمرني ونفساً تنهاني فنزل ذلك فيه، قاله الحسن ويكون معناه‏:‏ ما جعل الله لرجل من نفسين‏.‏

الخامس‏:‏ أنه مثل ضربه الله لزيد بن حارثة حين تبناه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعتقه فلما نزل تحريم التبنّي منع من ادعائه ولداً ونزل فيه ‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنَ قَلْبِينِ‏}‏ يقول‏:‏ ما جعل الله لرجل من أبوين، كذلك لا يكون لزيد أبوين حارثة ومحمد صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل بن حيان‏.‏ وفيه إثبات لمذهب الشافعي في نفي الولد عن أبوين ويكون معناه‏:‏ ما جعل الله لرجل من أبوين‏.‏

السادس‏:‏ معناه‏:‏ أنه لا يكون لرجل قلب مؤمن معنا وقلب كافر علينا لأنه لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب واحد ويكون معناه‏:‏ ما جعل الله لرجل من دينين، حكاه النقاش‏.‏

‏{‏وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّلآئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ‏}‏ وهو أن يقول لزوجته أنت عليّ كظهر أمي، فهذا ظهار كانوا في الجاهلية يحرمون به الزوجات ويجعلونهن في التحريم كالأمهات فأبطل الله بذلك أن تصير محرمة كالأم لأنها ليست بأم وأوجب عليه بالظهار منها إذا صار فيه عامداً كفارة ذكرها في سورة المجادلة ومنعه من إصابتها حتى يكفر وسنذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب‏.‏

‏{‏وَمَا جَعلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ‏}‏ يعني بذلك أدعياء النبي‏.‏ قال مجاهد كان الرجل في الجاهلية يكون ذليلاً فيأتي ذا القوة والشرف فيقول‏:‏ أنا ابنك فيقول نعم فإذا قبله واتخذه ابناً أصبح أعز أهله وكان زيد بن حارثة منهم قد تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان يصنع أهل الجاهلية فلما جاءت هذه الآية أمرهم الله أن يلحقوهم بآبائهم فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ‏}‏ في الإسلام‏.‏

‏{‏ذَلِكُم قَوْلُكُم بِأَفْواهِكُمْ‏}‏ أن امرأته بالظهار أُمُّه وأن دَعيه بالتبني ابنه ‏{‏وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ‏}‏ في أن الزوجة لا تصير في الظهار أُمّاً والدعيُّ لا يصير بالتبني ابناً‏.‏

‏{‏وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏}‏ يعني في إلحاق النسب بالأب، وفي الزوجة أنها لا تصير كالأم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُوهُمْ لآبآئِهِمْ‏}‏ يعني التبني‏:‏ قال عبد الله بن عمر ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد إلى أن نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ‏}‏ قال السدي فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى حارثة وعرف كل نسبه فأقرّوا به وأثبتوا نسبه‏.‏

‏{‏هُوَ أَقْسَطُ عِنَد اللهِ‏}‏ أي أعدل عند الله قولاً وحكماً‏.‏

‏{‏فَإِنَ لَّمْ تَعْلَمُواْ ءَابَآءَهُمْ فإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ فانسبوهم إلى أسماء إخوانكم ومواليكم مثل عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم وعبد العزيز، قاله مقاتل بن حيان‏.‏

الثاني‏:‏ قولوا أخونا فلان وولينا فلان، قاله يحيى بن سلام‏.‏ وروى محمد بن المنكدر قال‏:‏ جلس نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم جابر بن عبد الله الأنصاري فتفاخروا بالآباء فجعل كل واحد منهم يقول أنا فلان بن فلان حتى انتهوا إلى سلمان فقال أنا سلمان ابن الإسلام فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال صدق سلمان وأنا عمر بن الإسلام وذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ‏}‏‏.‏

الثالث‏:‏ إنه إن لم يُعرف لهم أب ينسبون إليه كانوا إخواناً إن كانوا أحراراً، وموالي إن كانوا عتقاء كما فعل المسلمون فيمن عرفوا نسبه وفيمن لم يعرفوه فإن المقداد بن عمرو كان يقال له المقداد بن الأسود بن عبد يغوث الزهري فرجع إلى أبيه وسفيان بن معمر كانت أمه امرأة معمر في الجاهلية فادعاه ابناً ثم أسلم سفيان وشهد بدراً فنسب إلى أبيه ونسبه في بني زريق من الأنصار‏.‏ وممن لم يعرف له أب سالم، مولى أبي حذيفة ونسب إلى ولاء أبي حذيفة‏.‏

‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأَتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ ما أخطأتم قبل النهي وما تعمدت قلوبكم بعد النهي في هذا وغيره، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ ما أخطأتم به ما سهوتم عنه، وما تعمدمت قلوبكم ما قصدتموه عن عمد، قاله حبيب بن أبي ثابت‏.‏

الثالث‏:‏ ما أخطأتم به أن تدعوه إلى غير أبيه، قاله قتادة‏.‏

‏{‏وَكَانَ اللَّهُ غَفوراً رَحيماً‏}‏ أي غفوراً عما كان في الشرك، رحيماً بقبول التوبة في الإسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه أولى بهم من بعضهم ببعض لإرساله إليهم وفرض طاعته عليهم، وقاله مقاتل بن حيان‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أولى بهم فيما رآه له بأنفسهم، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه كان في الحرف الأول‏:‏ هو أب لهم‏.‏ وكان سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد غزاة تبوك أمرالناس بالخروج فقال قوم منهم نستأذن آباءنا وأمهاتنا فأنزل الله فيهم هذه الآية، حكاه النقاش‏.‏

الرابع‏:‏ أنه أولى بهم في قضاء ديونهم وإسعافهم في نوائبهم على ما رواه عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَا مِن مُؤمنٍ إِلاَّ أَنَا أَولَى النَّاس بِهِ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ اقْرَأُوا إِن شِئْتُم ‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالاً فَلْتَرِثْهُ عُصْبَتُهُ مَن كَانُوا، وَإِن تَرَكَ دَيناً أَوْ ضِيَاعاً فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهُ

»‏.‏ ‏{‏وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ‏}‏ يعني من مات عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه هن كالأمهات في شيئين‏.‏

أحدهما‏:‏ تعظيم حقهن‏.‏

الثاني‏:‏ تحريم نكاحهن‏.‏ وليس كالأمهات في النفقة والميراث‏.‏

واختلف في كونهن كالأمهات في المحرم وإباحة النظر على الوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ هن محرم لا يحرم النظر إليهن لتحريم نكاحهن‏.‏

الثاني‏:‏ أن النظر إليهن محرم لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظاً لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن فكان من حفظ حقه تحريم النظر إليهن ولأن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابناً لأختها من الرضاعة فيصير محرماً يستبيح النظر‏.‏

وأما اللاتي طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ تثبت لهن هذه الحرمة تغليباً لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثاني‏:‏ لا يثبت لهن ذلك بل هذه كسائر النساء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت عصمتهن وقال‏:‏ أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة‏.‏

الثالث‏:‏ أن من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن ثبتت حرمتها ويحرم نكاحها وإن طلقها حفاظاً لحرمته وحراسة لخلوته ومن لم يدخل بها لم يثبت لها هذه الحرمة، وقد همّ عمر بن الخطاب برجم امرأة فارقها النبي صلى الله عليه وسلم فنكحت بعده فقالت‏:‏ لم هذا وما ضرب عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاباً ولا سميت للمؤمنين أماً، فكف عنها‏.‏

وإذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين فيما ذكرناه فقد اختلف فيهن هل هن أمهات المؤمنات على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهن أمهات المؤمنين والمؤمنات تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء‏.‏

الثاني‏:‏ أن هذا حكم يختص بالرجال المؤمنين دون النساء لاختصاص الحظر والإباحة بالرجال دون النساء‏.‏ وقد روى الشعبي عن مسروق عن عائشة أن امرأة قالت لها يا أماه فقالت لست بأم لك أنا أم رجالكم‏.‏

‏{‏وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجرِينَ‏}‏‏.‏

قيل إنه أراد بالمؤمنين الأنصار، وبالمهاجرين قريشاً‏.‏ وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن هذا ناسخ للتوارث بالهجرة حكى سعيد عن قتادة قال كان نزل في الأنفال ‏{‏وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتهِمْ مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ‏}‏ فتوارث المسلمون بالهجرة فكان لا يرث الأعرابي المسلم من قريبه المهاجر المسلم شيئاً ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله ‏{‏وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُم أَوْلَى بِبَعْضٍ‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ أن ذلك ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين روى هشام بن عمرو عن أبيه عن الزبير بن العوام قال أنزل فينا خاصة معشر قريش والأنصار لما قدمنا المدينة قدمناه ولا أموال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد وآخيت أنا كعب بن مالك، فلما كان يوم أُحد قتل كعب بن مالك فجئت فوجدت السلاح قد أثقله فوالله لقد مات ما ورثه غيري حتى أنزل الله هذه الآية فرجعنا إلى مواريثنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِي كِتَابِ اللَّهِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في القرآن، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ في اللوح المحفوظ الذي قضى أحوال خلقه، قاله ابن بحر‏.‏

‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ‏}‏ يعني أن التوارث بالأنساب أولى من التوارث بمؤاخاة المؤمنين وبهجرة المهاجرين ما لم يختلف بالمتناسبين دين فإن اختلف بينهما الدين فلا توارث بينهما روى شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتِينِ

»‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه أراد الوصية للمشرك من ذوي الأرحام، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عنَى الوصية للحلفاء الذي آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه أراد الذين آخيتم تأتون إليهم معروفاً، قاله مقاتل بن حيان‏.‏

الرابع‏:‏ أنه عنى وصية الرجل لإخوانه في الدين، قاله السدي‏.‏

‏{‏كَانَ ذَلِكَ فِي الْكَتَابِ مَسْطُوراً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ كان التوارث بالهجرة والمؤاخاة في الكتاب مسطوراً قبل النسخ‏.‏

والثاني‏:‏ كان نسخه بميراث أولي الأرحام في الكتاب مسطوراً قبل التوارث‏.‏

الثالث‏:‏ كان أن لا يرث مسلم كافرا في الكتاب مسطوراً‏.‏

وفي ‏{‏الْكِتَابِ‏}‏ أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ في اللوح المحفوظ، قاله إبراهيم التيمي‏.‏

الثاني‏:‏ في الذكر، قاله مقاتل بن حيان‏.‏

الثالث‏:‏ في التوراة أمر بني اسرائيل أن يصنعوا مثله في بني لاوي بن يعقوب حكاه النقاش‏.‏

الرابع‏:‏ في القرآن، قاله قتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏7‏)‏ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ميثاقهم على قومهم أن يؤمنوا بهم، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ ميثاق الأمم على الأنبياء أن يبلغوا الرسالة إليهم، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضاً، قاله قتادة‏.‏

‏{‏وَمِنكَ وَمِن نَّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‏}‏ روى قتادة عن الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِنَ نُّوحٍ‏}‏ قال «كُنتُ أَوَّلَهُم فِي الخَلْقِ وَآخِرَهُم في البَعْثِ

»‏.‏ ‏{‏وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثاقاً غَلِيظاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الميثاق الغليظ تبليغ الرسالة‏.‏

الثاني‏:‏ يصدق بعضهم بعضاً‏.‏

الثالث‏:‏ أن يعلنوا أن محمداً رسول الله، ويعلن محمد أنه لا نبي بعده‏.‏

وفي ذكر من سمى من الأنبياء مع دخولهم في ذكر النبيين وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تفضيلاً لهم‏.‏

الثاني‏:‏ لأنهم أصحاب الشرائع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِّيَسْأَلَ الصَادِقِينَ عَنَ صِدْقِهِمْ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم، حكاه النقاش‏.‏ الثاني‏:‏ ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم، حكاه النقاش ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ ليسأل الأنبياء عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم، حكاه ابن شجرة‏.‏

الرابع‏:‏ ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏9‏)‏ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ‏}‏ قال ابن عباس يعني يوم الأحزاب حين أنعم الله عليهم بالصبر ثُم بالنصر‏.‏

‏{‏إِذْ جَآءَتْكُم جُنُودٌ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ جنود الأحزاب أبو سفيان وعيينة بن حصين وطلحة بن خويلد وأبو الأعور السلمي وبنو قريظة‏.‏

‏{‏فَأرْسَلْنَا عَلَيِهِمْ رِيحاً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هي الصَّبا أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى كفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم وروى ابن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نُصِرْتُ بِالصّبَا وأُهْلِكَت عَادٌ بِالدَّبُورِ» وكان من دعائه يوم الأحزاب «اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَورَتَنَا وَآمِن رَوْعَتَنَا» فضرب الله وجوه أعدائه بريح الصَبا‏.‏

‏{‏وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا‏}‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ هم الملائكة‏.‏

وفي ما كان منهم أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ تفريق كلمة المشركين وإقعاد بعضهم عن بعض‏.‏

الثاني‏:‏ إيقاع الرعب في قلوبهم، حكاه ابن شجرة‏.‏

الثالث‏:‏ تقوية نفوس المسلمين من غير أن يقاتلوا معهم وأنها كانت نصرتهم بالزجر حتى جاوزت بهم مسيرة ثلاثة أيام فقال طلحة بن خويلد‏:‏ إن محمداً قد بدأكم بالسحر فالنجاة النجاة‏.‏

‏{‏وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً‏}‏ يعني من حفر الخندق والتحرز من العدو‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ‏}‏ يعني من فوق الوادي وهو أعلاه من قبل المشرق، جاء منه عوف بن مالك في بني نضر، وعيينة بن حصين في أهل نجد، وطلحة بن خويلد الأسدي في بني أسد‏.‏

‏{‏وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ‏}‏ يعني من بطن الوادي من قبل المغرب أسفل أي تحتاً من النبي صلى الله عليه وسلم، جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة، ويزيد بن جحش على قريش، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة مع عامر بن الطفيل من وجه الخندق‏.‏

‏{‏وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ شخصت‏.‏

الثاني‏:‏ مالت‏:‏

‏{‏وَبَلَغَتِ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ‏}‏ أي زالت عن أماكنها حتى بلغت القلوب الحناجر وهي الحلاقيم واحدها حنجرة‏.‏ وقيل إنه مثل مضروب في شدة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة‏.‏ وروي عن ابي سعيد الخدري أنه قال يوم الخندق‏:‏ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تأمر بشيء تقوله فقد بلغت القلوب الحناجر فقال‏:‏ «نعم قُولُواْ‏:‏ اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتَنَا وَآمِنْ رَوْعَتَنَا» قال‏:‏ فضرب الله وجوه أعدائه بالريح فهزموا بها‏.‏

‏{‏وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فيما وعدوا به من نصر، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه اختلاف ظنونهم فظن المنافقون أن محمداً وأصحابه يُستأصلون وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله ورسوله حق وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون، قاله الحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ بالحصر، حكاه النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ بالجوع فقد أصابهم بالخندق جوع شديد، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ امتحنوا في الصبر على إيمانهم وتميز المؤمنون عن المنافقين، حكاه ابن شجرة‏.‏ وحكى ابن عيسى أن ‏{‏هُنالِكَ‏}‏ للبعد من المكان، وهناك للوسط وهنا للقريب‏.‏

‏{‏وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ حركوا بالخوف تحريكاً شديداً، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أنه اضطرابهم عما كانوا عليه فمنهم من اضطرب في نفسه ومنهم من اضطرب في دينه‏.‏

الثالث‏:‏ أنه حركهم الأمر بالثبات والصبر، وهو محتمل‏.‏

الرابع‏:‏ هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق، قاله الضحاك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المرض النفاق، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الشرك، قاله الحسن‏.‏

‏{‏مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً‏}‏ حكى السدي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحفر الخندق لحرب الأحزاب فبينا هو يضرب فيه بمعوله إذ وقع المعول على صفاة فطار منها كهيئة الشهاب من نار في السماء، وضرب الثاني فخرج مثل ذلك، وضرب الثالث فخرج مثل ذلك فرأى ذلك سلمان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رَأَيتَ مَا خَرَجَ فِي كُلّ ضَرْبَةٍ ضَرَبْتَهَا» قال‏:‏ نعم يا رسول الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تُفْتَحُ لَكُمْ بِيضُ المَدَائِنِ وَقُصُورُ الرُّومِ وَمَدَائِنُ اليَمن» قال ففشا ذلك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحدثواْ به، فقال رجل من الأنصار يدعى قشير بن معتب‏.‏ وقال غيره قشير بن عدي الأنصاري من الأوس‏:‏ وعدنا محمد أن تفتح لنا مدائن اليمن وقصور الروم وبيض المدائن وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته إلا قتل‏؟‏ هذا والله الغرور فأنزل الله هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالت طَّآئِفَةٌ مِّنهُمْ‏}‏ يعني من المنافقين قيل إنهم من بني سليم، وقيل إنه من قول أوس بن فيظي ومن وافقه على رأيه، ذكر ذلك يزيد بن رومان، وحكى السدي أنه عبد الله بن أُبي وأصحابه‏.‏

‏{‏يَأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مَقُامَ لَكُم فَارْجِعُواْ‏}‏ قرأ حفص عن عاصم بضم الميم، والباقون بالفتح‏.‏ وفي الفرق بينهما وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وهو قول الفراء أن المقام بالفتح الثبات على الأمر، وبالضم الثبات في المكان‏.‏

الثاني‏:‏ وهو قول ابن المبارك انه بالفتح المنزل وبالضم الإقامة‏.‏

وفي تأويل ذلك ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أي لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين مشركي العرب، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى طلب الأمان، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ لا مقام في مكانكم فارجعوا إلى مساكنكم، قال النقاش‏.‏

والمراد بيثرب المدينة وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يثرب هي المدينة، حكاه ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ أن المدينة في ناحية من يثرب، قاله أبو عبيدة وقد روى يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَن قَالَ المَدِينَةُ يَثْرِبُ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، هَي طَابَةُ» ثلاثة مرات‏.‏

‏{‏وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ‏}‏ قال السدي‏:‏ الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار من بني حارثة، أحدهما أبو عرابة بن أوس، والآخر أوس بن فيظي‏.‏ قال الضحاك‏:‏ ورجع ثمانون رجلاً بغير إذن‏.‏

‏{‏يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ قاصية من المدينة نخاف على عورة النساء والصبيان من السبي، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ خالية ليس فيها إلا العورة من النساء، قاله الكلبي والفراء، مأخوذ من قولهم قد اعور الفارس إذا كان فيه موضع خلل للضرب قال الشاعر‏:‏

له الشدة الأولى إذا القرن أعورا *** الثالث‏:‏ مكشوفة الحيطان نخاف عليها السراق والطلب، قاله السدي والعرب تقول قد أعور منزلك إذا ذهب ستره وسقط جداره وكل ما كره انكشافه فهو عندهم عورة، وقرأ ابن عباس‏:‏ إن بيوتنا عَوِرة، بكسر الواو، أي ممكنة العورة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ‏}‏ تكذيباً لهم فيما ذكروه‏.‏

‏{‏إِن يُريدُونَ إِلاَّ فِرَاراً‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ فراراً من القتل‏.‏

الثاني‏:‏ من الدِّين‏.‏ وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار من بني حارثة وبني سلمة، همّوا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق وفيهم أنزل الله ‏{‏إذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أن تَفْشَلاَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 122‏]‏ الآية‏.‏ فلما نزلت هذه الآية قالوا‏:‏ والله ما سرّنا ما كنا هممنا به إن كان الله ولينا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 17‏]‏

‏{‏وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ‏(‏14‏)‏ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ‏(‏15‏)‏ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏16‏)‏ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا‏}‏ أي لو دخل على المنافقين من أقطار المدينة ونواحيها‏.‏

‏{‏ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لأَتَوهَا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما تلبثوا عن الإجابة إلى الفتنة إلا يسيراً، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ ما تلبثوا بالمدينة إلا يسيراً حتى يعدموا، قاله السدي‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ‏}‏ الآية، فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم عاهدوه قبل الخندق وبعد بدر، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ قبل نظرهم إلى الأحزاب، حكاه النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ قبل قولهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا‏.‏

وحكي عن ابن عباس أنهم بنو حارثة‏.‏

‏{‏وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما مسئولاً عنه للجزاء عليه‏.‏

الثاني‏:‏ للوفاء به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل مَن الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّن اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً‏}‏‏.‏

فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ إن أراد بكم هزيمة أو أراد بكم نصراً، حكاه النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ إن أراد بكم عذاباً، أو أراد بكم خيراً، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ إن أراد بكم قتلاً أو أراد بكم توبة، قاله السدي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏18‏)‏ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ‏}‏ يعني المثبطين من المنافقين، قيل إنهم عبد الله بن أُبي وأصحابه‏.‏

‏{‏وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِليْنَا‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم المنافقون قالوا للمسلمين ما محمد إلا أكلة رأس وهو هالك ومن معه فهلم إلينا‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم اليهود من بني قريظة قالوا لإخوانهم من المنافقين هلم إلينا أي تعالوا إلينا وفارقوا محمداً فإنه هالك وإن أبا سفيان إن ظفر لم يبق منكم أحداً‏.‏

الثالث‏:‏ ما حكاه ابن زيد أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من عند يوم الأحزاب فوجد أخاه بين يديه شواء ورغيف فقال‏:‏ أنت هكذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف، فقال له أخوه كان من أبيه وأمه‏.‏ هلّم إليّ قد تُبع بك وبصاحبك أي قد أحيط بك وبصاحبك، فقال له‏:‏ كذبت والله لأخبرنه بأمرك وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجده قد نزل عليه جبريل عليه السلام بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا‏}‏‏.‏

‏{‏وَلاَ يَأْتُونَ البََأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يحضرون القتال إلا كارهين وإن حضروه كانت أيديهم مع المسلمين وقلوبهم مع المشركين قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ لا يشهدون القتال إلا رياء وسمعة، قاله السدي، وقد حكي عن الحسن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَذْكُرُونَ إلاَّ قَلِيلاً‏}‏ إنما قل لأنه كان لغير الله عز وجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَشِحَّةً عَلَيكُمْ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أشحة بالخير، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ بالقتال معكم، قاله ابن كامل‏.‏

الثالث‏:‏ بالغنائم إذا أصابوها، قاله السدي‏.‏

الرابع‏:‏ أشحة بالنفقة في سبيل الله، قاله قتادة‏.‏

‏{‏فَإِذَا جَآءَ الْخَوفُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ إذا جاء الخوف من قتال العدو إذا أقبل، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ الخوف من النبي صلى الله عليه وسلم إذا غلب، قاله ابن شجرة‏.‏

‏{‏رَأيْتُهُمْ يَنْظُرُونَ إِليَكَ‏}‏ خوفاً من القتال على القول الأول، ومن النبي صلى الله عليه وسلم على القول الثاني‏.‏

‏{‏تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيهِ مِنَ الْمَوتِ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ تدور أعينهم لذهاب عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة‏.‏

الثاني‏:‏ تدور أعينهم لشدة خوفهم حذراً أن يأتيهم القتل من كل جهة‏.‏

‏{‏فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي رفعوا أصواتهم عليكم بألسنة حداد أي شديدة ذربة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَعَنَ اللَّهُ السَّالِقَةَ وَالخَارِقَةُ وَالحَالِقَةَ» يعني بالسالقة التي ترفع صوتها بالنياحة والخارقة التي تخرق ثوبها في المصيبة وبالحالقة التي تحلق شعرها‏.‏

الثاني‏:‏ معناه آذوكم بالكلام الشديد‏.‏ والسلق الأذى، قاله ابن قتيبة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ولقد سلقن هوازنا *** بنواهلٍ حتى انحنينا

وقال الخليل‏:‏ سلقته باللسان إذا أسمعته ما يكره وفي سلقهم بألسنةٍ حداد وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ نزاعاً في الغنيمة، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ جدالاً عن أنفسهم، قاله الحسن‏.‏

‏{‏أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ على قسمة الغنيمة، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ على المال ينفقونه في سبيل الله، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ على النبي صلى الله عليه وسلم بظفره‏.‏

‏{‏أَوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ‏}‏ يعني بقلوبهم‏.‏

‏{‏فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ يعني حسناتهم أن يثابوا عليها لأنهم لم يقصدوا وجه الله تعالى بها‏.‏

‏{‏وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وكان نفاقهم على الله هيناً‏.‏

الثاني‏:‏ وكان إحباط عملهم على الله هيناً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُونَ الأَحْزَابِ لَمْ يَذْهَبُواْ‏}‏ يعني أن المنافقين يحسبون أبا سفيان وأحزابه من المشركين حين تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مغلوبين لم يذهبوا عنه وأنهم قريب منهم ثم فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم كانواعلى ذلك لبقاء خوفهم وشدة جزعهم‏.‏

الثاني‏:‏ تصنعاً للرياء واستدامة التخوف‏.‏

‏{‏وَإِنَ يَأْتِ الأَحْزَابُ‏}‏ يعني أبا سفيان وأصحابه من المشركين‏.‏

‏{‏يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعرْابِ‏}‏ أي يود المنافقون لو أنهم في البادية مع الأعراب حذراً من القتل وتربصاً للدوائر‏.‏

‏{‏يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ‏}‏ أي عن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتحدثون‏:‏ أما هلك محمد وأصحابه، أما غلب أبو سفيان وأحزابه‏.‏

‏{‏وَلَوْ كَانُواْ فِيكُم مَا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إلا كرهاً‏.‏

الثاني‏:‏ إلا رياءً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوُلِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي مواساة عند القتال، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ قدوة حسنة يتبع فيها، والأسوة الحسنة المشاركة في الأمر يقال هو مواسيه بماله إذا جعل له نصيباً‏.‏

وفي المراد بذلك وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الحث على الصبر مع النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه‏.‏

الثاني‏:‏ التسلية لهم فيما أصابهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم شُج وكُسِرَت رباعيته وقتل عمه حمزة‏.‏

‏{‏لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ لمن كان يرجوا الله بإيمانه ويصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، قاله ابن جبير‏.‏

‏{‏وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أي استكثر من العمل بطاعته تذكراً لأوامره‏.‏

الثاني‏:‏ أي استكثر من ذكر الله خوفاً من عقابه ورجاء لثوابه واختلف فيمن أريد بهذا الخطاب على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ المنافقون عطفاً عل ما تقدم من خطابهم‏.‏

الثاني‏:‏ المؤمنون لقوله‏:‏ ‏{‏لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ‏}‏‏.‏

واختلف في هذه الأسوة بالرسول هل هي على الإِيجاب أو على الاستحباب على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ على الإيجاب حتى يقوم دليل علىلاستحباب‏.‏

الثاني‏:‏ على الاستحباب حتى يقول دليل على الإيجاب‏.‏

ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأحْزَابِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الله وعدهم في سورة البقرة فقال ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏ الآية‏.‏ فلما رأواْ أحزاب المشركين يوم الخندق ‏{‏قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏ قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ ما رواه كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ذكرت الأحزاب فقال‏:‏ «أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةُ عَلَيهَا يَعْنِي قُصُورِ الحِيرَةِ وَمَدَائِنِ كِسرَى فَأبْشِرُوا بِالنَّصْرِ» فاستبشر المسلمون وقالوا‏:‏ الحمد لله موعد صادق إذ وعدنا بالنصر بعد الحصر فطلعت الأحزاب فقال المؤمنون ‏{‏هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولَهُ‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ إلا إيماناً وتسلمياً للقضاء، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ إلا إيماناً بما وعد الله وتسليماً لأمر الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم بايعوا الله على ألا يفرُّوا، فصدقوا في لقائهم العدو يوم أحد، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم قوم لم يشهدوا بدراً فعاهدوا الله ألا يتأخروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرب يشهدها أو أمر بها، فوفوا بما عاهدوا الله عليه، قاله أنس بن مالك‏.‏

‏{‏فَمِنْهُم مَّن قَضَى نحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنْتَظِرُ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ فمنهم من مات ومنهم من ينتظر الموت، قاله ابن عباس ومنه قول بشر بن أبي خازم‏:‏

قضى نحب الحياة وكلُّ حي *** إذا يُدْعى لميتته أجابا

الثاني‏:‏ فمنهم من قضى عهده قتل أو عاش، ومنهم من ينتظر أن يقضيه بقتال أو صدق لقاء، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ فمنهم من قضى نذره ومنه قول الراعي‏:‏

حتى تحنّ إلى ابن أكرمها *** حسباً وكن منجز النحب

فيكون النحب على التأويل الأول الأجل، وعلى الثاني العهد، وعلى الثالث النذر‏.‏

‏{‏وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما غيروا كما غير المنافقون، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ ما بدلوا ما عاهدوا الله عليه من الصبر ولا نكثوا بالفرار، وهذا معنى قول الحسن‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لِّيَجْزِيَ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ الذين صدقوا لما رأواْ الأحزاب ‏{‏هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏ الآية‏.‏

الثاني‏:‏ الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من قبل فثابوا ولم يغيروا‏.‏

‏{‏وَيُعَذِّبُ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعذبهم إن شاء ويخرجهم من النفاق إن شاء، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ يعذبهم في الدنيا إن شاء أو يميتهم على نفاقهم فيعذبهم في الآخرة إن شاء، قاله السدي‏.‏

‏{‏أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ قال السدي يخرجهم من النفاق بالتوبة حتى يموتوا وهم تائبون‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ غفرواً بالتوبة رحيماً بالهداية إليها‏.‏

الثاني‏:‏ غفوراً لما قبل التوبة رحيماً لما بعدها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَغَيظِهِمْ‏}‏ يعني أبا سفيان وجموعه من الأحزاب‏.‏

‏{‏بِغَيظِهِمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بحقدهم‏.‏

الثاني‏:‏ بغمّهم‏.‏

‏{‏لَمْ يَنَالُواْ خَيراً‏}‏ قال السدي لم يصيبوا من محمد وأصحابه ظفراً ولا مغنماً‏.‏

‏{‏وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بعلي بن ابي طالب كرم الله وجهه‏.‏ حكى سفيان الثوري عن زيد عن مرة قال أقرأنا ابن مسعود هذا الحرف‏:‏ ‏{‏وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ‏}‏ بعلي بن أبي طالب‏.‏

الثاني‏:‏ بالريح والملائكة، قاله قتادة والسدي‏.‏

‏{‏وََكَانَ اللَّهُ قَوِياً‏}‏ في سلطانه‏.‏ ‏{‏عَزِيزاً‏}‏ في انتقامه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ‏(‏26‏)‏ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْل الْكِتَابِ‏}‏ هم بنو قريظة من اليهود ظاهرواْ أبا سفيان ومجموعة من الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عاونوه والمظاهرة هي المعاونة‏.‏ وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوه فغزاهم بعد ستة عشر يوماً من الخندق قال قتادة نزل عليه جبريل وهو عند زينب بنت جحش يغسل رأسه فقال عفا الله عنك ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة فانهد إلى بني قريظة فإني قد قلعت أوتادهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال فسار إليهم فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة حتى نزلوا على التحكيم في أنفسهم‏.‏

وفيمن نزلوا على حكمه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم أن يقتل مقاتلوهم ويسبى ذراريهم وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقال قومه‏:‏ آثرت المهاجرين بالعقار علينا، فقال‏:‏ إنكم ذوو عقار وليس للمهاجرين فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «قُضِيَ فِيهِم بِحُكْمِ اللَّهِ» قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحكموا سعداً لكن أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فقال‏:‏ «أَشِر عَلَيَّ فِيهِم» فقال‏:‏ لو وليتني أمرهم لقتلت مقاتليهم ولسبيت ذراريهم ولقسمت أموالهم فقال‏:‏ «وَالَّذِي نَفْسِ بِيَدِهِ لََقَدْ أَشَرتَ عَلَيَّ فِيهِم بِالَّذِي أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ» وروي ذلك عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن أبيه‏.‏

‏{‏مِن صَيَاصِيهِمْ‏}‏ من حصونهم قال الشاعر

‏:‏

فأصبحت النسوان عقرى وأصبحت *** نساء تميم يبتدرْن الصياصيا‏.‏

وسميت بذلك لامتناعهم بها، ومنه سميت قرون البقر صياصي لامتناعها بها، وسميت شوكة الديك التي في ساقه صيصية‏.‏

‏{‏وَقَذَفَ فِي قُُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ‏}‏ قال قتادة بصنيع جبريل بهم‏.‏

‏{‏فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً‏}‏ حكى عطية القرظي أنهم عُرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة فمن كان احتلم أو نبتت عانته قتل، فنظروا إليّ فلم تكن نبتت عانتي فتركت فقيل إنه قتل منهم أربعمائة وخمسين رجلاً وهم الذين عناهم الله بقوله ‏{‏فَرِيقاً تقتلون‏}‏ وسبي سبعمائة وخمسين رجلاً وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله ‏{‏وتأسرون فريقاً‏}‏ وقال قتادة‏:‏ قتل أربعمائة وسبى سبعمائة‏.‏

‏{‏وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُم وَأَمْوَالَهُم‏}‏ يريد بالأرض النخل والمزارع، وبالدبار المنازل وبالأموال المنقولة‏.‏

‏{‏وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُوهَا‏}‏ فيها أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها مكة، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ خيبر، قاله السدي وابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ فارس والروم، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ ما ظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة، قاله عكرمة‏.‏

‏{‏وَكَانَ اللَّهُ علََى كُلِّ شَيءٍ قَدِيراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ على ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قديرٌ، قاله ابن اسحاق‏.‏

الثاني‏:‏ على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى، قدير، قاله النقاش‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏28‏)‏ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّها النَبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِن كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا وَزِينَتَهَا‏}‏ الآية‏.‏

وهذا أمر من الله لنبيه أن يخبر أزواجه، واختلف أهل التأويل في تخييره لهن على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن واختيار الآخرة فيمسكهن، ولم يخيرهن في الطلاق، قاله الحسن وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه خيّرهن بين الطلاق أو المقام معه، وهذا قول عائشة رضي الله عنها وعكرمة والشعبي ومقاتل‏.‏

روى عبد الله بن أبي ثورعن ابن عباس قال‏:‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ أنزلت آية التخيير فبدأني أول امرأة من نسائه، فقال‏:‏ «إنّي ذَاكَرٌ أَمْراً وَلاَ عَلَيك أَلاَّ تَعْمَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبُوَيكِ» وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه قالت‏:‏ ثم تلا آية التخيير فقالت أفي هذا أستأمر أبويّ‏؟‏ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة‏.‏ ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل قولي‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ إلا الحميرية فإنها اختارت نفسها‏.‏

واختلف في السبب الذي لأجله خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه على خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ لأن الله تعالى خير نبيه بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة، فاختار الآخرة على الدنيا وقال‏:‏ «اللَّهُمَّ احْيِنِي مِسْكِيناً وَأمِتْنِي مِسْكِينَاً وَاحْشْرْنِي فِي زُمْرَةِ المَساكِين» فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير نسائه ليكنَّ على مثل حاله إن كان اختيارهن مثل ما اختاره‏.‏ حكاه أبو القاسم الصيمري‏.‏

الثاني‏:‏ لأنهن تغايرن عليه، فروت عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهجرنَنّا شهراً فدخل عليّ بعد صبحة تسعة وعشرين، فقلت يا رسول الله‏:‏ ألم تكن حلفت لتهجرننا شهراً‏؟‏ فقال‏:‏ «إن الشهر هكذا وهكذا وهكذا،» ثم خنس الإبهام، ثم قال يا عائشة‏:‏ «إِنّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً وَلاَ عَلَيْكِ أَن لاَّ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَشِيري أَبُويكِ» وخشي حداثة سني قلت‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال «أُمِرْتُ أَن أَخَيِّرَكُنَّ

»‏.‏ الثالث‏:‏ أن أزواجه طالبنه وكان غير مستطيع فكان أوّلهن أم سلمة فسألته ستراً معلماً، فلم يقدر عليه، وسألته ميمونة حلة يمانية، وسألته زينب بنت جحش ثوباً مخططاً وهو البرد اليماني، وسألته أم حبيبة ثوباً سحولياً، وسألته حفصة ثوباً من ثياب مصر، وسألته جويرية معجزاً، وسألته سودة قطيفة جبيرية، وكل واحدة منهن طلبت نصيباً إلاّ عائشة لم تطلب شيئاً، فأمر الله تعالى بتخييرهن، حكاه النقاش‏.‏

الرابع‏:‏ لأن أزواجه اجتمعن يوماً فقلن‏:‏ نريد ما تريد النساء من الحلي والثياب حتى قال بعضهن‏:‏ لو كنا عن غير النبي صلى الله عليه وسلم إذن لكان لنا شأن وثياب وحلي، فأنزل الله تعالى آية التخيير، حكاه النقاش‏.‏

الخامس‏:‏ لأن الله تعالى صان خلوة نبيه فخيرهن على ألا يتزوجن بعده، فلما أجَبْنَ إلى ذلك أمسكهن‏.‏ قال مقاتل بن حيان‏:‏ قاله الحسن وقتادة‏:‏ وكان تحته يومئذ تسع سوى الحميرية، خمس من قريش‏:‏ عائشة وحفصة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أبي أمية وسودة بنت زمعة، هؤلاء خمس من قريش، وكان تحته صفية بنت حيي بن أخطب الحميرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية‏.‏ فلما اخترنه والصبر معه على ما يلاقيه من شدة ورخاء عوضهن الله تعالى على صبرهن بأمرهن بأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ بأن يجعلهن أمهات المؤمنين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَزْوَاجُهُ أَمَّهَاتُكُمْ‏}‏ تعظيماً لحقوقهن وتأكيداً لحرمتهن‏.‏

الثاني‏:‏ أن حظر عليهن طلاقهن والاستبدال بهن فقال ‏{‏لاَ يَحِلُّ لك النِّسَاءُ مِن بَعد‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فكان تحريم طلاقهن مستداماً‏.‏ وأما تحريم التزويج عليهن فقد كان ذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في شدته وقلة مكنته‏.‏

ثم اختلف الناس بعد سعة الدنيا عليه هل أحل الله له النساء على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه كان تحريمه عليهن باقياً لأن الله تعالى جعله جزاء لصبرهن‏.‏

الثاني‏:‏ أن الله تعالى أحل له النساء أن يتزوج عليهن عند اتساع الدنيا عليه، لأن علة التحريم الضيق والشدة، فإذا زالت زال موجبها‏.‏ قالت عائشة رضي الله عنها ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء، يعني اللاتي حظرن عليه، وقيل إن الناسخ لتحريمهن قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ‏}‏ الآية‏.‏

فأما غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يلزمهم تخيير نسائهم فإن خيروهن فقد اختلف الفقهاء في حكمهن على ثلاثة مذاهب‏.‏

أحدها‏:‏ إن اخترن الزوج فلا فرقة، وإن اخترن أنفسهن كانت تطليقة رجعية‏.‏ وهذا قول الزهري وعائشة والشافعي‏.‏

الثاني‏:‏ إن اخترن الزوج فهي تطليقة وله الرجعة، وإن اخترن أنفسهن فهي تطليقة بائن والزوج كأحد الخطاب، وهذا قول عليّ رضي الله عنه‏.‏

الثالث‏:‏ إن اخترن الزوج فهي تطليقة والزوج كأحد الخطاب، وإن اخترن أنفسهن فهي ثلاث ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره، وهذا قول زيد بن ثابت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشةٍ مُّبَيِّنَةٍ‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الزنى، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ النشوز وسوء الخلق، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنهما عذابان في الدنيا لعظم جرمهن بأذية رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال مقاتل‏:‏ حدّان في الدنيا غير السرقة‏.‏

وقال أبو عبيدة والأخفش‏:‏ الضعفان أن يجعل الواحد ثلاثة، فيكون عليهن ثلاثة حدود لأن ضعف الواحد اثنان فكان ضِعْفا الواحد ثلاثة‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ المراد بالضعف المثل فصار المراد بالضعفين المثلين‏.‏

وقال آخر‏:‏ إذا كان ضعف الشيء مثليه وجب بأن يكون ضعفاه أربعة أمثاله‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ فجعل عذابهن ضعفين، وجعل على من قذفهن الحد ضعفين‏.‏

‏{‏وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً‏}‏ أي هيناً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْنُتْ مِنُكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ أي تُطِع الله ورسوله والقنوت الطاعة‏.‏

‏{‏وَتَعْمَلُ صَالِحاً‏}‏ أي فيما بينها وبين ربها‏.‏

‏{‏نُؤْتِهَا أَجرَهَا مَرَّتِين‏}‏ أي ضعفين، كما كان عذابها ضعفين‏.‏ وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهما جميعاً في الآخرة‏.‏

الثاني‏:‏ أن أحدهما في الدنيا والآخر في الآخرة‏.‏

‏{‏وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في الدنيا، لكونه واسعاً حلالاً‏.‏

الثاني‏:‏ في الآخرة وهو الجنة‏.‏

‏{‏كَرِيماً‏}‏ لكرامة صاحبه، قاله قتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏32‏)‏ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا نِسَآءَ النَّبِيَّ لَسْتنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النِّسَآءِ‏}‏ قال قتادة‏:‏ من نساء هذه الأمة‏.‏

‏{‏إِنِ اتَّقَيْتُنَّ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ إنكن أحق بالتقوى من سائر النساء‏.‏

‏{‏فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ‏}‏ فيه ستة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه فلا ترققن بالقول‏.‏

الثاني‏:‏ فلا ترخصن بالقول، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ فلا تُلِن القول، قاله الفراء‏.‏

الرابع‏:‏ لا تتكلمن بالرفث، قاله الحسن‏.‏ قال متمم‏.‏

ولستُ إذا ما أحدث الدهر نوبة *** عليه بزوّار القرائب أخضعا

الخامس‏:‏ هو الكلام الذي فيه ما يهوى المريب‏.‏

السادس‏:‏ هو ما يدخل من كلام النساء في قلوب الرجال، قاله ابن زيد‏.‏

‏{‏فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه شهوة الزنى والفجور، قاله عكرمة والسدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه النفاق، قاله قتادة‏.‏ وكان أكثر من تصيبه الحدود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم المنافقون‏.‏

‏{‏وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ صحيحاً، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ عفيفاً، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ جميلاً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ‏}‏ قرئت على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ بفتح القاف، قرأه نافع وعاصم، وتأويلها اقررن في بيوتكن، من القرار في مكان‏.‏

الثاني‏:‏ بكسر القاف‏:‏ قرأها الباقون، وتأويلها كن أهل وقار وسكينة‏.‏

‏{‏وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى‏}‏ وفي خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه التبختر، قاله ابن أبي نجيح‏.‏

الثاني‏:‏ كانت لهن مشية تكسرٍ وتغنج، فنهاهن عن ذلك، قاله قتادة، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «المَائِلاَتُ المُمِيلاَتُ‏:‏ اللاَّئِي يَسْتَمِلْنَ قُلُوبَ الرِّجَالِ إلَيهِنَّ

»‏.‏ الثالث‏:‏ أنه كانت المرأة تمشي بين يدي الرجل، فذلك هو التبرج، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ هو أن تلقي الخمار على رأسها ولا تشده ليواري قلائدها وعنقها وقرطها، ويبدو ذلك كله منها، فذلك هو التبرج، قال مقاتل بن حيان‏.‏

الخامس‏:‏ أن تبدي من محاسنها ما أوجب الله تعالى عليها ستره، حكاه النقاش وأصله من برج العين وهو السعة فيها‏.‏

وفي ‏{‏الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى‏}‏ أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، قاله الشعبي وابن أبي نجيح‏.‏

الثاني‏:‏ زمان إبراهيم، قاله مقاتل والكلبي، وكانت المرأة في ذلك الزمان تلبس درعاً مفرجاً ليس عليها غيره وتمشي في الطريق، وكان زمان نمرود‏.‏

الثالث‏:‏ أنه ما بين آدم ونوح عليهما السلام ثمانمائة سنة، وكان نساؤهم أقبح ما تكون النساء، ورجالهم حسان، وكانت المرأة تريد الرجل على نفسها، فهو تبرج الجاهلية الأولى‏:‏ قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ أنه ما بين نوح وإدريس‏.‏ روى عكرمة عن ابن عباس أن الجاهلية الأولى كانت ألف سنة‏.‏ وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه كانت المرأة في زمانها تجمع زوجاً وخلما، والخلم الصاحب، فتجعل لزوجها النصف الأسفل ولخلمها نصفها الأعلى، ولذلك يقول بعض الخلوم‏:‏

فهل لك في البدال أبا خبيب *** فأرضى بالأكارع والعجُوز

الثاني‏:‏ وهو مبدأ الفاحشة، وهو أن بطنين من بني آدم كان أحدهما يسكن السهل، والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة، وأن إبليس اتخذ لهم عيداً فاختلط أهل السهل بأهل الجبل فظهرت الفاحشة فيهم، فهو تبرج الجاهلية‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ‏}‏ وفي الرجس ها هنا ستة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ الإثم، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ الشرك، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ الشيطان، قاله ابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ المعاصي‏.‏

الخامس‏:‏ الشك‏.‏

السادس‏:‏ الأقذار‏.‏

وفي قوله تعالى ‏{‏أَهْلَ الْبَيْتِ‏}‏- ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه عنى علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، قاله أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عنى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، قاله ابن عباس وعكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ أنها في الأهل والأزواج، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏وَيُطَهّرَكُمْ تطْهِيراً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ من الإثم، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ من السوء، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ من الذنوب، قاله الكلبي، ومعانيها متقاربة‏.‏

وفي تأويل هذه الآية لأصحاب الخواطر ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يذهب عنكم رجس الأهواء والتبرج ويطهركم من دنس الدنيا والميل إليها‏.‏

الثاني‏:‏ يذهب عنكم رجس الغل والحسد، ويطهركم بالتوفيق والهداية‏.‏

الثالث‏:‏ يذهب عنكم رجس البخل والطمع ويطهركم بالسخاء والإيثار، روى أبو ليلى الكندي عن أم سلمة أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيتها على منام له، عليه كساء خيبري‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ‏}‏ قال قتادة القرآن‏.‏

‏{‏وَالْحِكْمَةِ‏}‏ فيها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ السنة، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ الحلال والحرام والحدود، قاله مقاتل‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً‏}‏ قال عطية العوفي‏:‏ لطيفاً باستخراجها خبيراً بموضعها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ سبب نزول هذه الآية ما رواه يحيى بن عبد الرحمن عن أم سلمة قالت‏:‏ يا رسول الله ما للرجال يذكرون في القرآن ولا تذكر النساء؛ فنزلت ‏{‏إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ‏}‏- الآية وفيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني بالمسلمين والمسلمات المتذللين والمتذللات‏.‏ وبالمؤمنين والمؤمنات المصدقين والمصدقات‏.‏

الثاني‏:‏ أنهما في الدين، فعلى هذا في الإسلام والإيمان قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهما واحد في المعنى وإن اختلفا في الأسماء‏.‏

الثاني‏:‏ أنهما مختلفان على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الإسلام الإقرار باللسان، والإيمان التصديق به، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ أن الإسلام هو اسم الدين والإيمان هو التصديق به والعمل عليه‏.‏

‏{‏وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتاتِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ المطيعين والمطيعات، قاله ابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ الداعين والداعيات‏.‏

‏{‏وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الصادقين في إيمانهم والصادقات، قاله ابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ في عهودهم‏.‏

‏{‏وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ على أمر الله ونهيه، قاله ابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ في البأساء والضراء‏.‏

‏{‏والْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ المتواضعين والمتواضعات، قاله ابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ الخائفين والخائفات‏:‏ قاله يحيى بن سلام وقتادة‏.‏

الثالث‏:‏ المصلين والمصليات، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ المتصدقين والمتصدقات بأنفسهم في طاعة الله‏.‏

الثاني‏:‏ بأموالهم‏.‏ ثم فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ المؤدين الزكوات المفروضات‏.‏

الثاني‏:‏ المتطوعين بأداء النوافل بعد المفروضات، قاله ابن شجرة‏.‏

‏{‏وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الإمساك عن المعاصي والقبائح‏.‏

الثاني‏:‏ عن الطعام والشراب وهو الصوم الشرعي‏.‏ وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ صوم الفرض‏.‏

الثاني‏:‏ شهر رمضان وثلاثة أيامٍ من كل شهر، قاله ابن جبير‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «صَومُ الشَّهْرِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ يُذْهِبْنَ وَغْرَ الصَّدْرِ

»‏.‏ ‏{‏وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ عن الفواحش‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد منافذ الجسد كلها فيحفظون أسماعهم عن اللغو والخنا، وأفواههم عن قول الزور وأكل الحرام‏.‏ وفروجهم عن الفواحش‏.‏

‏{‏وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ‏}‏ فيهم ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ باللسان قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ التالون لكتابه، قاله ابن شجرة‏.‏

الثالث‏:‏ المصلين والمصليات، حكاه النقاش‏.‏

‏{‏أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجَرْاً عَظِيماً‏}‏ لعلمهم، قاله ابن جبير، قال قتادة‏:‏ وكانت هذه الآية أول آية نزلت في النساء فذكرن بخير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيرَةُ مِنُ أَمْرِهِمْ‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في زينب بنت جحش خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة فامتنعت وامتنع أخوها عبد الله بن جحش وأنهما ولدا عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهما أميمة بنت عبد المطلب وأن زيداً كان بالأمس عبداً فنزلت هذه الآية فقالت‏:‏ أمري بيدك يا رسول الله فزوجها به، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ ساق إليها عشرة دنانير وستين درهماً وملحفة ودرعاً وخمسين مداً من طعام وعشرة أمداد من تمر‏.‏

الثاني‏:‏ أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم قال «قَدْ قَبِلْتُ» فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا‏:‏ إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزّوجنا عبده فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد‏.‏

‏{‏وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ فقد جار جوراً مبيناً، قاله ابن شجرة‏.‏

الثاني‏:‏ فقد أخطأ خطأ طويلاً، قاله السدي ومقاتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِيّ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ‏}‏ قال قتادة والسدي وسفيان هو زيد بن حارثة وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنعم الله عليه لمحبة رسوله وأنعم الرسول عليه بالتبني‏.‏

الثاني‏:‏ أنعم الله عليه بالإسلام وأنعم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بالعتق‏.‏

‏{‏أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ‏}‏ يعني زينب بنت جحش، قاله الكلبي، أتى النبي صلى الله عليه وسلم منزل زيد زائراً فأبصرها قائمة فأعجبته فقال‏:‏ «سُبْحَانَ مُقَلّبَ القُلُوبِ» فلما سمعت زينب منه ذلك جلست قال أبو بكر بن زياد‏:‏ وجاء زيد إلى قوله فذكرت له ذلك فعرف أنها وقعت في نفسه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ائذن لي في طلاقها فإن فيها كِبْراً وإنها لتؤذيني بلسانها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» وفي قلبه صلى الله عليه وسلم غير ذلك‏.‏

‏{‏وَتُخْفي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الذي أخفاه في نفسه ميله إليها‏.‏

الثاني‏:‏ إشارة لطلاقها، قاله ابن جريج‏.‏

الثالث‏:‏ أخفى في نفسه إن طلقها زيد تزوجها‏.‏

الرابع‏:‏ أن الذي أخفاه في نفسه أن الله أعلمه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، قاله الحسن‏.‏

‏{‏وَتَخْشى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن نبي الله خشي قالة الناس، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه خشي أن يبديه للناس فأيّد الله سره، قاله مقاتل بن حيان‏.‏

قال الحسن‏:‏ ما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية أشد عليه منها‏.‏

وقال عمر بن الخطاب‏:‏ لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية التي أظهرت غيبه‏.‏

‏{‏فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا‏}‏ الوطر الأرب المنتهي وفيه هنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الحاجة، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الطلاق، قاله قتادة‏.‏

قال يحيى بن سلام‏:‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد فقال له «ائْتِ زَينبَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ زَوَّجْنِيهَا» فانطلق زيد فاستفتح الباب فقالت من هذا‏؟‏ فقال‏:‏ زيد قالت‏:‏ وما حاجة زيد إليّ وقد طلقني‏؟‏ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليك فقالت‏:‏ مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم ففتحت له فدخل عليها وهي تبكي فقال زيد‏:‏ لا أبْكَى الله لَكِ عيناً قد كنت نعمت المرأة إن كنت لتبرين قسمي وتطيعين أمر الله وتشبعين مسرتي فقد أبدلك الله خيراً مني فقالت‏:‏ من لا أبا لك‏؟‏ قال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرت ساجدة لله تعالى قال الضحاك‏:‏ فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يومئذ في عسرة فأصدقها قِرْبَةً وعَبَاءَةً ورحى اليد ووسادة حَشْوُهَا ليف وكانت الوليمة تمراً وسُوَيقاً‏.‏ قال أنس فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليها بغير إذن‏.‏ قال قتادة‏:‏ فكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول أنتن زوجكن آباؤكن وأما أنا فزوجني ربُّ العرش تبارك وتعالى‏.‏

‏{‏لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً‏}‏ حكى ابن سلام أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم زعمت أن حليلة الابن لا تحل للأب وقد تزوجت حليلة ابنك زيد فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجلٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ‏}‏ أي أن زيداً دعيٌّ وليس بابن من الصلب فلم يحرم نكاح زوجته‏.‏

‏{‏وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفعُولاً‏}‏ أي كان تزويج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش حكماً لازماً وقضاء واجباً، ومنه قول الشاعر‏:‏

حتى إذا نزلت عجاجة فتنة *** عمياء كان كتابها مفعولاً

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ فيما أحله الله له من تزويج زينب بنت جحش، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ التي وهبت نفسها للنبي إذ زوجها الله إياه بغير صداق ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد تطوع عليها وأعطاها الصداق، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ في أن ينكح من شاء من النساء وإن حرم على أمته أكثر من أربع لأن اليهود عابوه بذلك، قاله الضحاك‏.‏

قال الطبري‏:‏ نكح رسول الله خمس عشرة، ودخل بثلاثة عشرة، ومات على تسع، وكان يقسم لثمان‏.‏

‏{‏سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ‏}‏ السنة الطريقة المعتادة أي ليس على الأنبياء حرج فيما أحل الله لهم كما أحل لداود مثل هذا في نكاح من شاء وفي المرأة التي نظر إليها وتزوجها ونكح مائة امرأة وأحل لسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سُرّية‏.‏

‏{‏وَكَانَ أَمُرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فعلاً مفعولاً، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ قضاء مقضياً وهو قول الجمهور‏.‏ وكانت زينب إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً تصلح طعامه وهي أول من مات من أزواجه في خلافة عمر ضي الله عنه وهي أول امرأة حملت على نعش لأن عمر قال حين ماتت‏:‏ واسوأتاه تحمل أم المؤمنين مكشوفة كما يحمل الرجال فقالت أسماء بنت عميس‏:‏ يا أمير المؤمنين إني قد كنت شاهدت في بلاد الحبشة شيئاً فيه للمرأة صيانة ووصفته له فأمر بعمله فلما رآه قال‏:‏ نِعم خباء الظعينة‏.‏